هنا يرقد خير من عرفت إسطنبول، فهو الذي استضاف في بيته رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة، فكان واحدًا من الأنصار الذين نصروا دين الله وأيدوا رسوله في أشد المحن وأصعب الظروف التي مر بها الإسلام، إنه الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، الذي فاضت روحه إلى بارئها على أبواب القسطنطينية قبل أن يتثنى للمسلمين دخولها بحوالي سبعمائة عام تقريبا، ليبنى بعد ذلك جامع السلطان أيوب أو ما يعرف في المدينة باسم مسجد أيوب سلطان احتفاء بمكانته الرفيعة.
الآن في إسطنبول تجد الكثيرين ممن يحدثونك عن مكانة هذا المسجد المبارك، حيث يعتبره الأتراك رابع المساجد الإسلامية جلالا وتقديسا، فيضعونه في مكانة تلي المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، وبالرغم من أن إسطنبول مدينة مليئة بالمساجد، إلا أنك ترى أعدادًا غفيرة من المسلمين يقصدون مسجد الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري تحديدا لأداء الصلاة، خاصة في صلاة الجمعة، التماسا للبركة، وتقديرا لذكرى الصحابي الذي شرفت به المدينة.
يعرف جامع السلطان أيوب العريق باسم مسجد (أيوب سلطان)، وهو موجود الآن بالمنطقة التي تسمت باسمه منطقة أيوب على الجانب الأوروبي من المدينة، تحديدا قرب القرن الذهبي، خارج الأسوار التي كانت تحد مدينة القسطنطينية –إسطنبول حاليا-، حيث بناه العثمانيون سنة 1458هـ، ليكون أول مسجد يقومون ببنائه في إسطنبول بعد دخولها سنة 1453م.
وقرب مسجد أيوب سلطان يقع قبر الصحابي أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، حيث دفن بتلك البقعة بعد محاولة جيوش المسلمين فتح مدينة القسطنطينية سنة 52 من الهجرة، وهي المحاولة التي باءت بالفشل. يذكر أنّ بعضا من آثار النبي محمد صلى الله عليه وسلم لا تزال محفوظة في هذا المقام.
أبو أيوب الأنصاري.. صحابي جليل في إسطنبول
هو الصحابي خالد بن زيد بن كليب رضي الله عنه، الذي عرف بأبي أيوب الأنصاري، وهو من خزرج المدينة، شهد غزوة بدر الكبرى، وكان ممن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة، كما أنه حضر جميع غزوات المسلمين، كذلك فقد قاتل الخوارج مع الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه، غير أنّ الشرف الذي لا يدانيه شرف هو إقامة رسول الله صلّى الله عليه وسلم بداره عقب الهجرة، حيث مكث عنده قرابة شهر كامل، حتى تم بناء المسجد النبوي وبيت النبي صلى الله عليه وسلم. وتوفي غازيا في سبيل الله خارج أسوار القسطنطينية، حيث كان ضمن جيش يزيد بن معاوية، الذي أمّ المصلين في جنازته.
يذكر أنه عندما خرج المسلمون إلى القسطنطينية لملاقاة الروم، مرض أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فقال: “إذا متُّ فاحملوني، فإذا صافقتم العدو فارموني تحت أقدامكم”، ثم قال رضوان الله عليه: أما إني سأحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة”. وقد دفن أبو أيوب الأنصاري خارج أسوار القسطنطينية، وسأل بعض الروم المسلمين عند دفنه قائلين: “يا معشر العرب قد كان لكم الليلة شأن؟! قالوا: “مات رجل من أكابر أصحاب نبينا، والله لئن نُبش -يعني قبره- لا ضرب بناقوس -أي جرس- في بلاد العرب”.
وعند وفاة أبو أيوب الأنصاري كان قد بلغ الثمانين من عمره، محاربًا ضد الروم، أيام خلافة معاوية بن أبي سفيان، حيث أوصى المسلمين أن يدفنوه في أبعد بقعة ممكنة داخل القسطنطينية عاصمة البيزنطيين، وقد نفذ المسلمون وصيته. ومع أن عاصمة البيزنطيين لم تسقط رغم طول مدة حصار الأمويين لها، إلا أن قبر أبي أيوب الأنصاري قد وجد لدى البيزنطيين وملوكهم بالغ التقدير.
مكانة جامع السلطان أيوب لدى العثمانيين
بعد ذلك بحوالي سبعمائة عام، وتحديدا سنة 1453م، استطاع السلطان العثماني الملقب باسم (محمد الفاتح) دخول القسطنطينية، بعدما استمر حكم البيزنطيين لها 11 قرنا تقريبا، حيث كان العثور على قبر أبي أيوب الأنصاري من أهداف المسلمين الأولى عقب فتحهم المدينة.
أمر السلطان المنتصر محمد الفاتح جنوده أن يحددوا مكان قبر الصحابي الجليل، وتقول الرواية أن (آق شمس الدين) الملقب بشيخ الإسلام قام بمباشرة عملية البحث عن القبر مع الجنود، حتى تم لهم ما كانوا يتطلعون إليه. وبعدما عثر المسلمون على قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري أصدر السلطان أوامره أن يتم بناء مسجد في تلك البقعة، البقعة التي غُسّل ودفن فيها مضيف رسول الله، وأن تضاف أقسام عدة إلى جامع السلطان أيوب المبارك.
فبعد دخول المسلمين إلى القسطنطينية حاز أبو أيوب الأنصاري مكانة عظيمة لدى الثقافة العثمانية تحديدا، حيث كان من عادة سلاطين الدولة العثمانية أنهم عندما يتسلمون مقاليد الحكم يقيمون حفلا دينيا خاصا بمسجد أبي أيوب رضي الله عنه، فيشهر السلطان الذي يتقلد الحكم سيف السلطان الأول الذي فتح القسطنطينية، وهو ما يرمز إلى فرض سيطرتهم على المدينة. احتل أبو أيوب رضي الله عنه مرتبة ولي الله عند الأتراك، خاصتهم وعامتهم، فهو الذي تهوي إليه قلوب المؤمنين، وهو الذي أكرم رسول الله وسانده وقت العسرة، فاعتبروا ضيافته للنبي وجهاده من أعظم المناقب وأظهر المآثر التي اشتهر بها.
جولة بمسجد أيوب سلطان
مثل جامع السلطان أيوب منذ بنائه مجمعا كبيرا للمسلمين، من الناحية الدينية والتعليمية والاجتماعية، ويعد واحدا من أهم معالم السياحة في إسطنبول، فيحدثنا التاريخ عن أن هذا المسجد كان يضم جامعة مشهورة، يأتي إليها الطلبة من جميع البلدان القريبة والبعيدة، حيث كان يتم توفير السكن والطعام لجميع طلبة العلم، كذلك فقد ضم المسجد بين أقسامه مطعما للفقراء وحماما، كما ازدهرت حوله فنون العمارة، ولاقت التجارة رواجًا واسعا.
نجد في باحة المسجد الأولى عددًا من النافورات الرخامية الملاصقة للجدار، تزينها النقوش الإسلامية والرومانية كذلك، وعلى مقربة منها تتوزع الأماكن المخصصة للوضوء.
أما الباحة الثانية فتتميز بالزحام الشديد، حيث تؤدي الناحية اليمنى من المكان إلى المصلى الكبير، وفي مقابلها مباشرة يصطف الكثير من الزوار الذين ينتظرون الدخول إلى ضريح الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري.
في منتصف فناء مسجد أيوب سلطان الداخلي، وبمحاذاة المبنى الذي يضم الضريح، نجد تلك الساحة المستطيلة التي يحوطها سياج معدني، وداخل الساحة نرى تلك الشجرة الضخمة العتيقة، التي يعتقد أنها نبتت في هذا المكان بعد وفاة أبي أيوب الأنصاري، وفي كل ركن من ذلك السياج يوجد سلسبيل ماء ليشرب منه الزوار.
لقد أوصى عدد كبير من زوجات السلاطين العثمانيين وبناتهم، وكبار الوزراء والمعلميين، وجموع من الشخصيات الهامة في بلاط السلطان أن يدفنوا في نفس الحي الذي يضم ضريح أبي أيوب الأنصاري. كذلك فإن كثيرا من الناس يأتون إلى هذا المكان تبركا به ليستجيب الله دعائهم ويحقق ما يتمنونه، فنلاحظ تردد العازبات على المسجد طلبا للزواجا، وكذلك الصبية الذين يتجهزون للختان، فيرافقون آباءهم إلى هناك للتبرك، ويأتي الآباء ليدعوا لبنيهم بالتوفيق في الحياة والدراسة وإيجاد عمل. كذلك يعتقد الناس هناك أن الماء الذي يسيل في تلك البقعة هو ماء مبارك، فيستخدمونه في الاستشفاء وما إلى ذلك.
وقد وضع القائمون على المكان بعض النقوش الرخامية التي تحكي سيرة هذا الصحابي الجليل، وتبرئه مما قد يفعل الزائرون من بدع محدثة عند قبره.