يُعد جامع بايزيد واحدًا من أكبر وأفخم وأجمل المساجد الأثرية الموجودة في مدينة إسطنبول، كما أنه يتميز بموقعه الخاص في أشهر مناطق الجانب الأوروبي من المدينة، حيث سميت الساحة القريبة باسمه، فصارت ساحة بايزيد، كذلك فهو مجاور لجامعة إسطنبول. نهج السلطان بايزيد الثاني نفس أسلوب والده السلطان الفاتح محمد الثاني، فاهتم بإنشاء وتشييد المساجد بالمدينة، حيث أمر السلطان ببناء الجامع سنة 1505م، 911هـ، وكلف أحد أمهر المهندسين في ذلك العصر، وهو المهندس المعماري خير الدين، بتصميم البناء والإشراف عليه، هذا المهندس الذي لم يدخر جهدًا في التنفيذ، فقام ببنائه على النسق البيزنطي البديع، مع محافظته على سمات المساجد الإسلامية العريقة.
ويعد جامع بايزيد الثاني من أوائل الآثار العثمانية التي يمكن رصد تأثير المباني البيزنطية عليها، لا سيما كنيسة آيا صوفيا التي تحولت على يد محمد الفاتح إلى مسجد تقام فيه الصلاة، فتصميمهما متقارب للغاية، على الرغم من أن قبة جامع بايزيد الثاني لا يتعدى قطرها الـ18م، أن أنها أصغر من القبة المميزة لآيا صوفيا بكثير. بني هذا الجامع –الموجود الآن في ساحة بايزيد- بكامله في حياة السلطان بايزيد الثاني، واستغرق بناؤه حوالي خمس سنوات، ما بين عامي 1500م و1505م.
من هو السلطان بايزيد الثاني؟
السلطان العثماني بايزيد الثاني، الذي ولد عام 1447م، وتوفي عام 1512م، هو ابن السلطان محمد الفاتح وخليفته، وهو كذلك والد السلطان سليم الأول، الذي كان يلقب بـ(الرهيب)، وجد السلطان سليمان القانوني. اشتهر السلطان بايزيد الثاني بالتقوى والورع، وعرف بلقب (السلطان الولي)؛ ويرجع سبب تلك التسمية إلى أنه بعدما اكتمل بناء مسجد بايزيد وتم تزويده بالفرش اللازم، جاء يوم الافتتاح، الذي يتم عن طريق إقامة الصلاة فيه، ولم يعرف المصلون من سيقوم بإمامتهم في هذه الصلاة، فقد يكون الإمام المعين لهذا الجامع، وقد يكون شيخ الإسلام، أو أحد العلماء المعروفين، وبينما المصلون في انتظار من يتقدمهم إلى الإمامة، وقف إمام المسجد وتوجه إلى الجموع قائلًا: “ليتقدم إلى الإمامة من لم يضطر طوال حياته لقضاء صلاة فرض”، أي من صلى جميع الفروض في أوقاتها على مدى سنين حياته، دهش الحضور من هذه الصفة، من ذاك الذي لم تفته فريضة طوال عمره، وبعد وقت يسير شاهد جموع المصلين السلطان بايزيد الثاني يتقدم إلى الإمامة في هدوء، ثم يكبر لصلاة الجماعة بخشوع ووقار، لذا أطلق عليه الناس لقب (السلطان الولي).
اشتهر السلطان العثماني بايزيد الثاني أيضا بأنه كان كثير الغزوات والخروج للجهاد في سبيل الله، ومن العجيب أنه كان يجمع الغبار الذي يعلق بملابسه أثناء غزواته في قارورة، وبينما كان يفعل ذلك في إحدى المرات، رأته زوجته (كولبهار)، فقالت له: أرجو أن تسمح لي يا مولاي بسؤال. فقال لها السلطان: اسألي يا (كولبهار). قالت: لم تفعل هذا يا مولاي؟ وما فائدة الغبار الذي تجمعه في تلك القارورة؟ قال لها: إنه غبار الجهاد يا (كولبهار) وسوف أوصي بعمل طابوقة من هذا الغبار توضع تحت رأسي في قبري بعد وفاتي، ألا تعلمين أن الله يحفظ من النار يوم القيامة جسدًا جاهد في سبيله.
وبالفعل فقد نفذت وصية السلطان، حيث صنعت من الغبار الذي تم جمع في هذه القارورة طابوقة، وضعت تحت رأس السلطان بايزيد الثاني، ذلك السلطان الورع بعد وفاته سنة 918هـ 1512م، ولا يزال قبره حتى الآن موجودا بجوار مسجده الذي بناه.
وصف جامع بايزيد
يتكون ذلك الجامع الضخم من المسجد الذي يقع في المنتصف تماما، إضافة إلى مطبخ لصنع الطعام من أجل الفقراء، كذلك يضم مدرسة ابتدائية، ومستشفى خيري، ومدرسة دينية، وحمام وخان. ويكمن الاختلاف بين جامع بايزيد ومجمع الفاتح الذي تم تشيده قبله، في أن جامع بايزيد لم يتم بناؤه بشكل متناظر، وإنما اعتمد أسلوبًا عشوائيًّا فيما يبدو. كما أن الناظر إلى المسجد يجد إطالة في جهتي الشمال والجنوب، ذلك من خلال نصفي قبتين، ورغم التشابه بين مسجد بايزيد الثاني وآيا صوفيا، إلا أن جامع السلطان بايزيد الثاني أظهر روحًا جديدة للمعمار التركي، حيث أنه يعد تطويرًا لما تم بناؤه في (أماسيا)، فيلاحظ مثلا مكعب المركز الذي يدعم القبة، وتلك الدعامات القوية التي تكفل لها الثبات بصورة متناسقة، والقبة تبدو كما لو أنها منفصلة بشكل كامل عن المبنى، أما أنصاف القباب منخفضة الارتفاع فهي غير مرتبطة بالقبة الرئيسية، بل تستند على المبنى نفسه، وهناك أروقة جانبية ذات ارتفاع بسيط، والتي تتكون من جناحين، يزين كلًا منهما أربع قباب.
كذلك هناك صحن له أروقة، تتميز أنها بنفس أبعاد حرم المسجد، وتوصل إليه، لكنه يبدو منفصلًا عنها بجناحين بهما عدد من القباب أيضا، يشكلان امتدادًا لساحة الصلاة من جهتي الشرق والغرب، حيث تظهر ساحة الصلاة وكأنها تستند إليهما، وفي الطرفين البعيدين منهما توجد مئذنتان، تبدوان متطابقتين، حيث أنهما يقسمان التكوين المعماري للجامع، وهذان الجناحان من أروع ما يميز مسجد بايزيد الثاني، كذلك القباب الصغيرة التي يصل عددها إلى 20 قبة.
ومسجد بايزيد الذي يقع في منتصف الجامع تماما له قبة رئيسية يبلغ قطرها 16.78م، تدعهما أربعة أعمدة قوية. والغريب في مسجد بايزيد أن إحدى مئذنتيه أكثر ارتفاعا من الأخرى بحوالي 79م. وتوجد بالقرب من المستشفى بعض المنحوتات الحجرية و أخرى خشبية، كذلك يوجد الزجاج المعشق، وهي تعد تحفا فنية رائعة. كذلك فقد تمت الاستفادة من بعض بقايا الآثار البيزنطية، وأعيد استخدامها بين مواد رصف الباحة، وفي أعمدة خزان الوضوء، حيث تشهد تلك الأعمدة بصورة خاصة على مدى جودة الصناعة اليدوية البيزنطية.
أما مطبخ الحساء والخانات فتقع على يسار الجامع، حيث يوجد هناك حاليا مقر مكتبة بايزيد، وهي مكتبة الحكومية. كما تضم المدرسة التي توجد في أقصى يمين الجامع متحفًا خاصا بمؤسسة التخطيط التركية. أما الحمام فهو على مسافة قصيرة من المدرسة، حيث يطل على شارع (أوردو)، بجوار قسم الآداب. القبور والأضرحة الموجودة بالمسجد تقع في القسم المتجه نحو القبلة (المسجد الحرام)، حيث دفن السلطان بايزيد الثاني، وكذلك ابنته سلجق خاتون، إضافة إلى قبر مصطفى رشيد باشا وهو مُخطط مراسم التنظيمات.
لا تفوتك أثناء زيارتك إلى إسطنبول زيارة هذا المسجد العريق الضارب بجذوره في عمق التراث العثماني للمدينة، الجامع الذي شيده السلطان الولي.. جامع بايزيد السلطان الولي.