على الرغم من أن الجمهورية التركية تعتبر نفسها الآن دولة علمانية، وتسعى للإنضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إلا أن حاكميها لا يزالون في حنين دائم إلى تلك الإمبراطورية الشاسعة التي مثلتها الدولة العثمانية، ولعل ذلك هو السبب وراء الاهتمام بمكانة قصر يلدز الذي يعتبر آخر مقرات الحكم العثماني، لذلك تم ترميمه وتجديده، واستعماله في كثير من المناسبات كمقر لرئاسة الجمهورية التركية، ما يعد إشارات إلى أنها تعتبر نفسها إمتدادًا لتلك الإمبراطورية الغابرة أيام الدولة العثمانية، والتي بقيت مسيطرة على مناطق شاسعة من العالم على مدى قرون متتالية.
قصة قصر يلدز
يعود تاريخ بناء قصر يلدز على الأرجح إلى عام 1790م، أيام حكم السّلطان سليم الثّالث، حيث أهداه إلى والدته السّلطانة (مهري شه)، ثم اتخذ مقرًا لحكم السلطان العثماني عبد الحميد الثاني وحكومته منذ عام 1853م، بدلًا من قصر (دولما باغجه)، وظل السلطان عبد الحميد الثاني يستخدمه مقرًا للحكم على فترات إلى عام 1909م، حيث كان قصر السلطان العثماني على مدى أكثر من ثلاثين عامًا.
كما يذكر أن القصر قد تعرض للنهب والسرقة سنة 1909م، وتحديدا في شهر أبريل، بعد ذلك قام السلطان وحيد الدين باتخاذه مقرا له، وهو آخر السلاطين العثمانيين، كان ذلك في الفترة ما بين 1918م و1922م. بعد زوال الدولة العثمانية تم تخصيص بعض أقسام القصر لمجموعة من الشركات الأجنبية، والتي قامت بتحول هذه الأقسام إلى محافل للعب القمار. بعد ذلك تم تخصيص قطاع من القصر ليكون مقرا لإحدى الدوائر العسكرية، ناهيك عن استخدام بعض أجزائه من قبل عدة مؤسسات تنوعت بين محلية ودولية، إلى أن انصرف اهتمام رئاسة الجمهورية التركية مؤخرا إلى إعادة ترميمه وتجديده، ثم تم تخصيصه كمقرا رئاسيا، بحيث يصبح قصر يلدز المقر الرئاسي لرئيس الجمهورية التركية في إسطنبول.
وقد مرّ قصر يلدز بعدة توسيعات، ففي عهد عبد الحميد الثاني أمر السلطان بتوسعة القصر، كان ذلك في عام 1890م، واستحدث به بيتًا للضيوف، والذي اتخذ مقرًا للحكومة العثمانية والصدر الأعظم طوال فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني. ثم في عام 1898م جرت توسعة أخرى للقصر، بغرض استقبال السلطان لإمبراطور ألمانيا، القيصر (ويليام الثاني).
قصر يلدز وغابته الفريدة
ترجع تسمية قصر يلدز العثماني المهيب إلى الحديقة التي بني بها، حيث يقع فوق أعلى تلال حديقة يلدز بإسطنبول، وكلمة يلدز بالتركية تعني (النجمة)، ويتكون من عدد ضخم من الأجنحة والمباني الملحقة به.
ونظرًا لهذا الاتساع الذي يتميز به القصر، إضافة إلى فرادة موقعه وطرازه المعماري الرائع، جرى اتخاذه كمقر للحكومة العثمانية بدلا من قصر (دولما باغجه)، لذا تجد داخل القصر عددًا كبيرًا من الغرف والأجنحة المخصصة للطبقة الحاكمة، ما بين السلطان ووزرائه، وأمراء وأميرات، كذلك غرف خاصة للخدم، والعديد من الحدائق والإسطبلات المخصصة للخيل، ما يجعله بحق واحدا من أفخم قصور إسطنبول.
ذلك القصر الذي يعتبر رابع قصور الدولة العثمانية بناء في إسطنبول، بعد الفتح الإسلامي، وآخر قصور العثمانيين، لا يتثنى للناظر إليه من الخارج أن يميز أقسامه ومرافقه حتى يدلف إلى داخله، لكن احذر أن يسرقك الوقت وأنت تتجول بين أرجاء ذلك البناء الضخم المهيب، الذي يخطف الألباب بما يحويه من إتقان ودقة البناء وجمال وروعة النقوش والزخرفة.
في نهاية القرن التاسع عشر، وعلى مساحة 500 ألف متر مربع، أمر السلطان عبد الحميد الثاني ببناء حديقة كبيرة، مسورة ومحمية بشكل تام، ألحقها بالقصر لتزيده جمالا ورونقا، وكانت هذه الحديقة محصورة ما بين منطقتي أورتاكوي وبشيكتاش بإسطنبول، وتطل على مضيق البوسفور مباشرة من الداخل، وهي على صورة غابة طبيعية غاية في الجمال والروعة، كان يُطلق عليها قبل ذلك اسم غابة (قازنجي أوغلو)، والتي تتميز بالأشجار الفريدة المتنوعة التي أحضرت بأمر السلطان من جميع بقاع العالم، كذلك تتميز بمجموعة الأنواع المختلفة التي تضمها من الزّهور النّادرة.
يعد قصر ويلدز واحدًا من الوجهات السياحية التي تلقى رواجا كبيرا لدى زائري إسطنبول، وبين أقسام القصر التي تلفت الأنظار صالة الاحتفالات، تلك الصالة الفخمة التي زين سقفها بألواح ذهبية براقة، وتغطي أرضيتها سجادة واحدة تبلغ مساحة 406 مترًا مربعًا! وهي الصالة التي كان السلطان عبد الحميد الثاني يستخدمها لاستقبال ضيوفه في الأعياد والاحتفالات العامة. ومن بين المقتنيات اللافتة للأنظار أيضا مفروشات صالة الطعام التي عرفت باسم (الصالة الصدفية)، ويرجع سبب تلك التسمية إلى أبوابها المكسية بالصدف، والتي تم صنعها في ورشة قصر يلدز، بأمر السلطان عبد الحميد الثاني.
ويطغى الذوق الأوروبي على جميع مفروشات القصر ومقتنياته، إضافة إلى الذوق العثماني المعهود، وذلك مما يميز ديكورات ذلك القصر الجبلي ويجذب إليه أعين السياح، حيث تلك المدافئ الضخمة المهيبة، والكراسي الفخمة المزخرفة، والطاولات الأوروبية ذات خشب المميز، والإضاءة المبهرة.
يذكر أنه في الآونة الأخيرة اعتاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استقبال زعماء العالم في هذا القصر، كما أن قصر يلدز قد شهد تصوير عددا من المسلسلات التركية المعروفة، مثل غيره من القصور العثمانية المهيبة، التي تركت بصمتها التاريخية على المكان.
أين يقع قصر يلدز في إسطنبول؟
يمكنك الوصول إلى قصر يلدز بأن تستقل قطار الأنفاق من منطقة السلطان أحمد باتجاه محطة (كبتاش)، ومنها قد تأخذ سيارة أجرة، أو تستقل أحد الباصات (58UL، 43R، 58N، 27E) لتجد نفسك ببساطة أمام حديقة يلدز، وتستمتع بتلك الأجواء التاريخية للمكان.
إنه نهاية الأحلام الإمبراطورية التي ليس لها حدود، واحد من أبرز الآثار العثمانية التي تميزت بها مدينة إسطنبول، قصر النجمة الذي يتلألأ بين جنبات تلك المدينة العريقة.. قصر يلدز.